ها هو رمضان قد آذن بالرحيل، وانتهى سامره، ربح من ربح وخسر من خسر . . ويا لسعد الرابحين المعتوقين من النار، ويا لخسارة الخاسرين الذين أدركهم رمضان ولم يغفر لهم .
روي عن أمير المؤمنين علي رضي الله عنه أنه كان ينادي في آخر ليلة من رمضان: "يا ليت شعري من هذا المقبول فنهنيه، ومن هذا المحروم فنعزيه" .
كثيرون حتى من أولئك الذين اقتربوا من ربهم في هذا الشهر الفضيل، فقاموا ليلهم، وصاموا نهارهم، وحفظوا أعينهم وألسنتهم وكل جوارحهم، كثيرون من هؤلاء يعودون أدراجهم بعد رمضان، وكأنهم يعبدون في رمضان ربّاً غير الذي يعبدونه بعد رمضان . وقد سئل بشر الحافي رحمه الله عن أناس يتعبدون في رمضان ويجتهدون، فإذا انسلخ رمضان تركوا، فقال: "بئس القوم لا يعرفون الله إلا في رمضان" .
وأنا أشبّه هؤلاء بالمرأة التي ذكر الله قصتها في القرآن حينما تحدث عن نقض الإيمان بعد توكيدها، والوفاء بالعهود .
لقد كان رمضان فرصة لشحن الطاقة الإيمانية، ففيه تجد الجميع وقد امتلأ بالطاقة والحيوية والعزيمة والنشاط .
فماذا نفعل لنحافظ على هذه الطاقة؟
أولاً يجب أن تلزم نفسك بالحفاظ على الصلوات الخمس جماعة، خصوصاً صلاة الفجر . فقد استطعت فعل ذلك في رمضان، فلا تترك نفسك لحظة واحدة، وحاول أن تجعل هذا العمل طبيعة من طبائعك، واعلم أن الشيطان لا يطلب منك الكبيرة مرة واحدة وإنما يأخذك خطوة خطوة، لذلك جاء النهي في القرآن عن اتباع خطوات الشيطان، قال تعالى: "ولا تتبعوا خطوات الشيطان . . ." .
الصلاة الصلاة . . واستمع لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي رواه مسلم عن عبد اللّه بن مسعود قال: "من سرّه أن يلقى اللّه غداً مسلماً فليحافظ على هؤلاء الصّلوات حيث ينادي بهنّ فإن اللّه شرع لنبيّكم صلّى اللّه عليه وسلّم سنن الهدى وإنّهنّ من سنن الهدى، ولو أنّكم صلّيتم في بيوتكم كما يصلّي هذا المتخلّف في بيته لتركتم سنّة نبيّكم، ولو تركتم سنّة نبيّكم لضللتم وما من رجل يتطهّر فيحسن الطّهور ثمّ يعمد إلى مسجد من هذه المساجد إلّا كتب اللّه له بكلّ خطوة خطاها حسنة ورفعه بها درجة وحطّ عنه بها سيّئة . ولقد رأيتنا وما يتخلّف عنها إلّا منافق معلوم النّفاق ولقد كان الرّجل يؤتى به يهادى بين الرّجلين حتّى يقام في الصّفّ .
فيا من عرفت طريق القيام في رمضان، وتذوقت حلاوة المناجاة، لا تحرم نفسك ولو ركعتين قبل أن تنام . ففي الحديث الذي رواه الطبراني عن سهل بن سعد رضي الله عنه قال: جاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "يا محمد عش ما شئت فإنك ميت واعمل ما شئت فإنك مجزى به وأحبب من شئت فإنك مفارقه واعلم أن شرف المؤمن قيام الليل وعزه استغناؤه عن الناس" .
نعم، شرفك الحقيقي في قيام الليل الذي اعتدته في رمضان، شرفك الحقيقي في التقرب إلى الله عز وجل بركعات تركعها في جوف الليل . . داوم عليها، اقترب من ربك أكثر فأكثر، أثبت على تلك الطاعة وأغلق على الشيطان أي باب يحاول النفاذ إليك منه .
أمر آخر يساعدك على الاستمرار على الطاعة، وهو مداومتك على قراءة القرآن، فالقرآن انزل لنتلوه في رمضان، وفي غير رمضان، وقد اجتهدت لتجعل من نفسك قارئاً للقرآن في هذا الشهر الفضيل ونجحت، فلا أقلّ من أن تنجح في الحفاظ على ورد يومي، ولو كان قليلا، وإياك أن تكون ممن سيشكوهم الرسول إلى ربه يوم القيامة: "وقال الرسول يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجوراً . ." واعلم أن المداومة على الأعمال الصالحة ولو قليلة من سنن النبي صلى الله عليه وسلم .
روى الإمامان البخاري ومسلم رضي الله عنهما عن عائشة قالت: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم "أحبّ الأعمال إلى اللّه تعالى أدومها وإن قلّ" .
ولا تنس عداوة الشيطان الذي كان مكبلاً لمدة شهر، عاجزاً عن غوايتك يستشيط غضباً بطاعتك، ويتوعدك بعد رمضان بالكيد والغواية والوقوع في الضلال والمعصية "قال ربّ بما أغويتني لأزيّننّ لهم في الأرض ولأغوينّهم أجمعين، إلاّ عبادك منهم المخلصين"، (الحجر: 40) .
كما أن من أعظم الوسائل المعينة على الثبات اختيار الصحبة الصالحة التي تعينك على الخير وتدلك عليه، فالمرء على دين خليله، والأخلاء بعضهم يومئذ لبعض عدو إلا المتقين، فاختر صاحباً إذا رأى منك معصية حذرك، ودلك على طريق الخير، ولا بد من التدقيق في اختيار تلك الصحبة، لأنها من أهم العوامل المساعدة على التزام الطاعة في رمضان وفي غير رمضان .
